سورة الضحى - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الضحى)


        


{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}
واعلم اتصاله بما تقدم من وجهين:
الأول: هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة: خير له من الأولى ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون. فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت، وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه الوجه الثاني: كأنه تعالى لما قال: {وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك، فقال: لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له، فثبت أن الآخرة خير له من الأولى، واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع، وقد يمكن حمله على التعظيم، أما المنافع، فقال ابن عباس: ألف قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها، وأما التعظيم فالمروى عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس، أن هذا هو الشفاعة في الأمة، يروى أنه عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال: إذاً لا أرضى وواحد من أمتي في النار، واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال: {أَسْتَغْفِرُ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] فأمره بالاستغفار والاستغفار عبارة عن طلب المغفرة، ومن طلب شيئاً فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما يرضى بالإجابة، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإجابة لا الرد، ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه. علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين والثاني: وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يقول لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك وتطييباً لقلبك، فهذا التفسير أوفق لمقدمة الآية والثالث: الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة، وعن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: رضاء جدي أن لا يدخل النار موحد، وعن الباقر، أهل القرآن يقولون: أرجى آية قوله: {ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} والله إنها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رضيت، هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة، أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، و(ما) هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وأنهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهييب الإسلام وفشو الدعوة، واعلم أن الأولى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة، وهاهنا سؤالات.
السؤال الأول: لم لم يقل: يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضاً؟
الجواب: لوجوه:
أحدها: أنه المقصود وهم أتباع.
وثانيها: أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك، لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق ما تفرح بإكرام نفسك، ومن ذلك حيث تقول الأنبياء: نفسي نفسي، أي أبدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي، لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي، وأنت تقول: أمتي أمتي، أي أبدأ بهم، فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم.
وثالثها: أنك عاملتني معاملة حسنة، فإنهم حين شجوا وجهك، قلت: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» وحين شغلوك يوم الخندق عن الصلاة، قلت: «اللهم املأ بطونهم ناراً» فتحملت الشجة الحاصلة في وجه جسدك، وما تحملت الشجة الحاصلة في وجه دينك، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجحت حقي على حقك، لا جرم فضلتك، فقلت من ترك الصلاة سنين، أو حبس غيره عن الصلاة سنين لا أكفره، ومن آذى شعرة من شعراتك، أو جزء من نعلك أكفره.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله: {وَلَسَوْفَ} ولم لم يقل: وسيعطيك ربك؟
الجواب: فيه فوائد إحداها: أنه يدل على أنه ما قرب أجله، بل يعيش بعد ذلك زماناً.
وثانيها: أن المشركين لما قالوا: ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة، فقال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] ثم قال المشركون: سوف يموت محمد، فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}.
السؤال الثالث: كيف يقول الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}؟
الجواب: هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه، لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا، فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات.
السؤال الرابع: ما هذه اللام الداخلة على سوف؟
الجواب: قال صاحب الكشاف: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك ربك والدليل على ما قلنا أنها إما أن تكون لام القسم، أو لام الابتداء، ولام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، فبقي أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر، فلابد من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك، فإن قيل ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير؟ قلنا معناه: أن العطاء كائن لا محالة، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.


{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: أن اتصاله بما تقدم هو أنه تعالى يقول: ألم يجدك يتيماً فقال الرسول: بلى يا رب، فيقول: انظر (أ) كانت طاعاتك في ذلك الوقت أكرم أم الساعة؟ فلابد من أن يقال: بل الساعة فيقول الله: حين كنت صبياً ضعيفاً ما تركناك بل ربيناك ورقيناك إلى حيث صرت مشرفاً على شرفات العرش وقلنا لك: لولاك ما خلقنا الأفلاك، أتظن أنا بعد هذه الحالة نهجرك ونتركك.
المسألة الثانية: ألم يجدك من الوجود الذي بمعنى العلم، والمنصوبان مفعولا وجد والوجود من الله، والمعنى ألم يعلمك الله يتيماً فآوى، وذكروا في تفسير اليتيم أمرين الأول: أن عبد الله بن عبد المطلب فيما ذكره أهل الأخبار توفي وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به، ثم ولد رسول الله فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة، فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين فكان مع جده، ثم هلك جده بعد أمه بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين. وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب كانا من أم واحدة، فكان أبو طالب هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة، فقام بنصرته مدة مديدة، ثم توفي أبو طالب بعد ذلك فلم يظهر على رسول الله يتم ألبتة فأذكره الله تعالى هذه النعمة، روى أنه قال أبو طالب يوماً لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه؟ فقال: بلى فقال: إني ضممته إلي فكيف لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار؛ ولا أأتمن عليه أحداً حتى أني كنت أنومه في فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي، فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني، وقال: يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئاً وكثيراً ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع، ولقد كنت كثيراً ما أسمع منه كلاماً يعجبني وذلك عند مضي الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمده بعده، وكان يقول في أول الطعام: بسم الله الأحد. فإذا فرغ من طعامه قال: الحمدلله، فتعجبت منه، ثم لم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية ولا وقف مع صبيان يلعبون.
واعلم أن العجائب المروية في حقه من حديث بحيرى الراهب وغيره مشهورة.
التفسير الثاني لليتيم: أنه من قولهم درة يتيمة، والمعنى ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك؟ أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب، وقرئ فأوى وهو على معنيين: إما من أواه بمعنى آواه، وإما من أوى له إذا رحمه، وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: كيف يحسن من الجود أن يمن بنعمة، فيقول: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى}؟ والذي يؤكد هذا السؤال أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه قال: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] في معرض الذم لفرعون، فما كان مذموماً من فرعون كيف يحسن من الله؟
الجواب: أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك أن يقوي قلبه ويعده بدوام النعمة، وبهذا يظهر الفرق بين هذا الامتنان وبين امتنان فرعون، لأن امتنان فرعون محبط، لأن الغرض فما بالك لا تخدمني، وامتنان الله بزيادة نعمه، كأنه يقول: مالك تقطع عني رجاءك ألست شرعت في تربيتك، أتظنني تاركاً لما صنعت، بل لابد وأن أتمم عليك وعلى أمتك النعمة، كما قال: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى} [البقرة: 150] أما علمت أن الحامل التي تسقط الولد قبل التمام معيبة ترد، ولو أسقطت أو الرجل أسقط عنها بعلاج تجب الغرة وتستحق الذم، فكيف يحسن ذلك من الحي القيوم، فما أعظم الفرق بين مان هو الله، وبين مان هو فرعون، ونظيره ما قاله بعضهم: {ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] في تلك الأمة، وفي أمة محمد: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] فشتان بين أمة رابعهم كلبهم، وبين أمة رابعهم ربهم.


السؤال الثاني: أنه تعالى منّ عليه بثلاثة أشياء، ثم أمره بأن يذكر نعمة ربه، فما وجه المناسبة بين هذه الأشياء؟
الجواب: وجه المناسبة أن نقول: قضاء الدين واجب، ثم الدين نوعان مالي وإنعامي والثاني: أقوى وجوباً، لأن المالي قد يسقط بالإبراء والثاني: يتأكد بالإبراء، والمالي يقضي مرة فينجو الإنسان منه والثاني: يجب عليك قضاؤه طول عمرك، ثم إذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم هو مملوك، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم العظيم، فكأن العبد يقول: إلهي أخرجتني من العدم إلى الوجود بشراً سوياً، طاهر الظاهر نجس الباطن، بشارة منك أن تستر على ذنوبي بستر عفوك، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حد لها ولا حصر؟ فيقول تعالى الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق عبيدي ما فعلته في حقك، كنت يتيماً فآويتك فافعل في حق الأيتام ذلك، وكنت ضالاً فهديتك فافعل في حق عبيدي ذلك، وكنت عائلاً فأغنيتك فافعل في حق عبيدي ذلك ثم إن فعلت كل ذلك فاعلم أنك إنما فعلتها بتوفيقي لك ولطفي وإرشادي، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم والألطاف.


{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}
فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر، ثم هداه الله وجعله نبياً، قال الكلبي: {وجدك ضالاً} يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد، وقال السدي: كان على دين قومه أربعين سنة، وقال مجاهد: وجدك ضالاًّ عن الهدى لدينه واحتجوا على ذلك بآيات أخر منها قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فهذا يقتضي صحة ذلك منه، وإذا دلت هذه الآية على الصحة وجب حمل قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ} عليه، وأما الجمهور من العلماء فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة، ثم قالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلاً لما فيه من التنفير، وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافراً فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى} [النجم: 2] ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً كثيرة أحدها: ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب: ووجدك ضالاًّ عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها، وهو المراد من قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].
وثانيها: ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام، وسمعت صوتاً يقول: إنما هلاكنا بيد هذا الصبي، وفيه حكاية طويلة.
وثالثها: ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع، كاد الجوع يقتلني، فهداني الله ذكره الضحاك، وذكر تعلقه بأستار الكعبة، وقوله:
يا رب رد ولدي محمدا *** اردده ربي واصطنع عندي يداً
فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول: لا ندري ماذا نرى من ابنك، فقال عبد المطلب ولم؟ قال: إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة، كأن الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى! وقال ابن عباس: رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه.
ورابعها: أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل، فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي، فهداه إلى القافلة، وقيل: إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى.
وخامسها: يقال: ضل الماء في الليل إذا صار مغموراً، فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه.
وسادسها: العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت، فأنت، شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق، ونظيره قوله عليه السلام:
الحكمة ضالة المؤمن.
وسابعها: ووجدك ضالاً عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً، كما قال: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ.
وثامنها: كنت ضالاً عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها ألبتة.
وتاسعها: أنه قد يخاطب السيد، ويكون المراد قومه فقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ} أي وجد قومك ضلالاً، فهداهم بك وبشرعك.
وعاشرها: وجدك ضالاًّ عن الضالين منفرداً عنهم مجانباً لدينهم، فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد، فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين.
الحادي عشر: وجدك ضالاً عن الهجرة، متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى، فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد، وكان ما كان من حديث سراقه، وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله: {فهدى}.
الثاني عشر: ضالاًّ عن القبلة، فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا، فهداه الله بقوله: {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] فكأنه سمى ذلك التحير بالضلال.
الثالث عشر: أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف أهو جبريل أم لا، وكان يخافه خوفاً شديداً، وربما أراد أن يلقي نفسه من الجبل فهداه الله حتى عرف أنه جبريل عليه السلام.
الرابع عشر: الضلال بمعنى المحبة كما في قوله: {إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} [يوسف: 95] أي محبتك، ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك.
الخامس عشر: ضالاًّ عن أمور الدنيا لا تعرف التجارة ونحوها، ثم هديتك حتى ربحت تجارتك، وعظم ربحت حتى رغبت خديجة فيك، والمعنى أنه ما كان لك وقوف على الدنيا، وما كنت تعرف سوى الدين، فهديتك إلى مصالح الدنيا بعد ذلك.
السادس عشر: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ} أي ضائعاً في قومك؛ كانوا يؤذونك، ولا يرضون بك رعية، فقوي أمرك وهداك إلى أن صرت آمراً والياً عليهم.
السابع عشر: كنت ضالاً ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات ليلة المعراج.
الثامن عشر: ووجدك ضالاًّ أي ناسياً لقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] فهديتك أي ذكرتك، وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: لا أحصي ثناء عليك.
التاسع عشر: أنه وإن كان عارفاً بالله بقلبه إلا أنه كان في الظاهر لا يظهر لهم خلافاً، فعبر عن ذلك بالضلال.
العشرون: روى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش، كان يرعى معي بأعلى مكة، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشبان، فخرجت أريد ذلك حتى أتيت أول دار من دور مكة، فسمعت عزفاً بالدفوف والمزامير، فقالوا فلان ابن فلان يزوج بفلانة، فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، قال فجئت صاحبي، فقال ما فعلت؟ فقلت ما صنعت شيئاً، ثم أخبرته الخبر، قال: ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته».

1 | 2 | 3 | 4